يواجه قطاع النشر، وبخاصة في العالم العربي، الكثير من الصعوبات، فمن جهة لا تجد دور النشر الصغيرة أي فرصة للاستمرار في ظل واقع القراءة المزري الذي يلقي بثقله على مبيعات الكتب، ويخلق نوعاً من التحدي المالي الخانق لكل من يعمل في هذا المجال، ومن جهة أخرى تحتكر مؤسسات النشر الكبيرة الأسماء اللامعة للمؤلفين، وتسيطر على سوق النشر والتوزيع بقدراتها المالية الضخمة، ومن جهة ثالثة، لا تلقى دور النشر الكبيرة منها والصغيرة أي دعم من حكومات البلاد التي لا ترى في نشر الكتاب واحداً من الدعامات الأساسية التي يجب أن تبني عليها لتطوير مجتمعاتها ورفع سوية مواطنيها.
في ظل كل هذه التحديات وغيرها قد يبدو من العبث الحديث عن "التنوع البيبليوغرافي" وأهميته في واقع النشر، لكن أمام ما يتهدد الثقافة اليوم بسبب تغييب أنواع مهمة من الكتب أو التضييق عليها، وترك المجال لمؤسسات النشر ومؤسسات التوزيع العملاقة لتفرض "ثقافة اللون الواحد" على القرّاء، لا بدّ من الحديث عنه والتعريف فيه، وبخاصة في هذا اليوم، 21 سبتمبر/ أيلول، الذي هو "يوم التاء" (نسبةً إلى التنوع البيبليوغرافي)، أو (B day) نسبةً إلى (Bibliodiversity).
كيف نشأ مصطلح "التنوع البيبليوغرافي" ومتى؟
لا زال الجدل مستمراً حتى اليوم بين فريقين (الفريق الأول هو مجموعة من الناشرين التشيليين، والفريق الثاني هو مجموعة من الناشرين الإسبان) يدّعي كل منهما أسبقيته في استخدام هذا المصطلح دون أن يثبت أياً منهما صحة أسبقيته. لكن ما يهمنا من كل هذا أن تعبير "التنوع البيبليوغرافي" أطلق باللغة الإسبانية أولاً، في أواخر التسعينيات.
ثم استُخدم التعبير من قبل "الرابطة العالمية للناشرين المستقلين" (International Alliance of Independent Publishers)، في عام 2002، وقد تولّت التعريف به ونشر استعماله في أكثر من لغة.
وفي عام 2005، قامت الدول الأعضاء في "اليونسكو" بالتوقيع على اتفاقية "حماية وتعزيز تنوّع التعبير الثقافي"، مما جعل بالإمكان اتخاذ خطوات فعالة لحماية "التنوع البيبليوغرافي".
التنوع البيبليوغرافي أصله إسباني
bibliodiversidad
ما هو "التنوع البيبليوغرافي"؟
يشير مصطلح "التنوع البيبليوغرافي" بكل بساطة، إلى ضرورة وجود عدد كبير من الأنواع المختلفة للمنشورات، بشكل يحقق التوازن بينها، وضرورة وجود عدد كبير من الناشرين، والمكتبات، وموزعي الكتب، المستقلين في وجه الاحتكارات المالية الكبيرة، حيث يعمل كل هؤلاء، بصفتهم مستقلين، على إعطاء جميع الكتب المنشورة المقدار نفسه من الفرص في الظهور والترويج.
في قطاع الأدب على سبيل المثال، يجب أن تُمنح كتب الشعر والقصة والرواية والمسرح والسيرة والمذكرات الأدبية، الفرصة نفسها في النشر والتسويق والترويج والعرض على واجهات المكتبات.
التنوع البيبليوغرافي ضد احتكار المؤسسات التجارية العملاقة لقطاع النشر أو التوزيع
من هي الأطراف التي تشارك في زيادة الصعوبات على "التنوع البيبليوغرافي"؟
يتوجه عدد كبير من أصحاب الأموال للاستثمار في قطاع النشر، دون وجود همّ ثقافي حقيقي لديهم، لذلك فإنهم يلجؤون إلى نشر الكتب ذات الربحية العالية والسريعة، ولا يلتفتون إلا في ما ندر إلى بقية أنواع الكتب وتصنيفاتها.
يتلو عمل الناشر، عمل موزع الكتب أو المكتبات، الذي يفضّل وضع الكتب التي تبيع أكثر من غيرها على واجهات العرض، في حين يحشر بباقي الأنواع في زوايا مهملة، أو لا يغامر أساساً باقتنائها ضمن مكتبته.
ثم يأتي دور الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية التي تهتم بنشر مراجعات الكتب أو أخباراً عن الإصدارات الحديثة، فتراها تهتم بالكتب الـ best sellers ، فتنشر مراجعات عنها، وأخباراً عن صدورها وحفلات توقيعها، بذريعة أن هذا ما سيجلب للموقع أو الصحيفة قراءً، فيحدث مثلاً أن تقرأ عشرات المراجعات عن كتابٍ ما، ولا تقرأ مراجعة - أو خبراً بسيطاً - عن كتاب آخر.
التنوع البيبليوغرافي ضد إيلاء كتب "البيست سيلرز" فرصة أكبر في العرض والترويج
كيف يمكنني كقارئ المساهمة في دعم "التنوع البيبليوغرافي"؟
القارئ الذي يختار الكتب التي يقرؤها اعتماداً على قوائم "البيست سيلرز"، أو قوائم الجوائز، أو اعتماداً على ما تعرضه المكتبات في واجهاتها، دون أن يبحث ويحاول الوصول إلى تلك الكتب غير المألوفة، وغير المشهورة، هو شريك في زيادة الصعوبات على التنوع البيبليوغرافي. لذلك، فإن كل المطلوب منك ألا تكون قارئاً كسولاً، أن لا تدع الآخرين يقررون لك ما يجب أن تقرأه. ابحث في تلك الرفوف المنسية من المكتبات، في المواقع الإلكترونية لدور النشر، اقرأ مراجعات الكتب التي تكتب عن كتب غير معروفة جداً وحاول أن تحصل على تلك الكتب لتقرأها. اشتري كتبك من المكتبات الصغيرة المستقلة التي تحوي عدداً كبيراً من الأنواع.
اختر كتابك بنفسك، جِدْ آلياتك الخاصة لاختيار الكتب، لا تدع آليات السوق تحددها
لماذا من المهم الحفاظ على "التنوّع البيبليوغرافي"؟
إن الكتب التي تبقى لأزمان طويلة، وتساهم بشكل فعّال في خلق ثقافة حقيقية، وتنتج عقولاً مبدعة، هي تلك الكتب التي تنطلق بشكل بطيء وتبيع بشكل أبطأ، وهي الكتب التي لا تجذب أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار فيها، فهم يريدون كتاباً "تجارياً" يطبع عدة طبعات متتالية في زمن قصير ويحقق لهم أرباحاً بغضّ النظر عن مدى القيمة التي يقدّمها للقارئ، وبغضّ النظر عن احترام المعايير التي تعنى بحقوق جميع العاملين في صناعة الكتاب.
بتواطؤ باقي المشاركين في توزيع وتسويق الكتاب، فإن هذه الكتب ستأخذ حصتها وحصة غيرها، ستسود ثقافة اللون الواحد والمنتج الواحد. وهذا يتنافى مع الإبداع، ويخلق أنماطاً موحّدة من العقول البشرية.
تذكّر الكوارث البيئية والصحية التي حلّت في العالم بعد أن أهملنا الحفاظ على "التنوع البيولوجي". وفكّر في الكوارث العقلية والنفسية التي يمكن أن تحل علينا إذا أهملنا الحفاظ على "التنوع البيبليوغرافي".
المراجع:
- Bibliodiversity: A Manifesto for Independent Publishers, By Susan Hawthorne, Spinifex Press Pty Ltd, 2014.
- http://www.alliance-editeurs.org.
- European Book Cultures: Diversity as a Challenge, By Stephanie Kurschus, Springer, 2014.